بلقيس ( ملكـــة ســـبـــأ )
ما أرجح عقلها! وما أشدًّ ذكاءها! وما أجمل فطنتها! وما أحسن حزمها!
إنها امرأة عجيبة فريدة، حازت الشرف من أطرافه، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه.
لم يُسطّر قصتها أحد القصاصين، إنما أثنى عليها عالمُ الغيبِ والشهادةِ، اللهُ جل جلاله، وأورد خبرها في خير كتبه المنزلة: القرآن العظيم.. وحسبك بهذا شرفاً وفخراً لها.
إنها ملكة سبأ: بلقــــيس.
تعالوا نستعرض سوياً بعض أقوالها لنضيء سماءنا بقبسات من سيرتها، ونزكي أنفسنا وتسمو هممنا بجميل فعالها.
لمّا ألقى إليها الهدهد كتاب سليمان عليه السلام قالت يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ). تأمل قولها (أُلقيَ إليَّ) قالت بصيغة المجهول، فلم تذكر من الذي ألقاه؟ وكيف أُلقي؟ وذلك حتى لا تصرف الانتباه لغير المقصود، وهو مضمون الكتاب، فإنها لو قالت: إن طائراً قد ألقاه لتعجبوا من ذلك، وقد لا يصدقونها، وسيدور كثير من الجدل حول ذلك، ولذا فإنها اكتـفت بما يدلّ على المراد .
وفي هذا درس لنا عندما ننقل أفكاراً أو رؤًى حول أمر معين أن نركز على مضمون الفكرة، ولا نلتفت كثيراً إلى مَن أتى بها؛ فإن في ذلك اختصاراً للأوقات، وبُعداً عن المجادلات، التي تضيع أو تضعف فائدة الحوار بيننا.
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ). فعلى الرغم من انفرادها في الملك إلاّ أنها لا تريد أن تستأثر بالقرار دونهم، بل تشاورهم. فما نصيب الاستشارة في حياتنا؟ ومن نستشير؟ وفي أي شيء نستشير؟
وكم خسرت الدعوة إلى الله تعالى من الأوقات والجهود والأموال بسبب الاستئثار بالرأي وترك المشورة!!
وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة، مع أنه تكفل بتأيـيده وإرشاده، فنحن أولى بالمشاورة، قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). [آل عمران: 159].
وقد التزم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أمره الله به، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتجدر الإشارة ههنا إلى أنه لا يُستشار شخص واحد في كل شيء، وإنما يُسأل كل أحد فيما يتقنه، فهناك متخصص في القضايا الدعوية وآخر في الأمور الاجتماعية.. وهكذا.
قالت بلقيس: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)
قال ابن كثير: أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله، وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك منا ويكفّ عنا، أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه كل عام، ونلتزم له بذلك، ويترك قتالنا ومحاربتـنا.
وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس.
أيها الأخ الفاضل، أيتها الأخت الكريمة: الهدية الآن نقدمها في الأغلب لمن نحب، فهل جرّبنا أن نقدمها لمن بيننا وبينه تخوّف وتوجّس ليزول ضباب الشكوك، وينجلي غمام المخاوف فنعيش معه في صفاء وهناء؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "تهادوا؛ فإن الهدية قلّت أو كثرت تذهب السخيمة-أي العداوة- وتورث المودة". رواه ابن حبان.
قال الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)
كان سليمان عليه السلام قد أمر بتغيير بعض صفات عرش بلقيس بزيادة ونقص ليختبر عقلها، فسألها: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو! أي يشبهه ويقاربه. وهذا من فطنتها وذكائها، فلم تقل (هو) لوجود التغيير فيه، ولم تنفِ أنه هو لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين.
قال ابن كثير: فكان فيها ثبات وعقل، ولها لبّ ودهاء وحزم، فلم تقلْ إنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإنه غُيِّر وبُدِّل ونُكِّر.
إن هذا الموقف الحصيف من بلقيس ليعطي درساً بضرورة التأني عند سماع الأخبار وتلقيها، وبخاصة بعدما كثرت وسائل نقلها وازدادت سرعة تداولها، كرسائل الجوال والإنترنت. فبعض الناس لا يكاد يتلقى أو يسمع خبراً إلاّ ويسارع إلى نشره دون تأمّل لمحتواه ولمدى صحته وجدوى نقله.
وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التأني وعدم العجلة فقال: " التأني من الله، والعجلة من الشيطان". رواه الترمذي وصحّحه الألباني.
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ما أجملها من كلمة، وما أحسنه من قول: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)، إقرار بالخطيئة، واعتراف بالذنب، فلم يجعلها ملكها ومكانتها عند قومها تتكبر عن قبول الحق، والرجوع عن الباطل.
إن المكانة العلمية أو الدعوية، والخوف من اهتزاز الصورة عند المحبين قد تمنع البعض الآن من التراجع عن قول أو فعل تبين له خطؤه.
ولقد امتدح الله -عز وجل- عباده المؤمنين الذين يزِلّون ويذنبون، ثم لا تأخذهم العزة بالإثم بل يعودون ويتوبون فقال عنهم: ( ...وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). [آل عمران: 135].
وتوعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المُصرين على الخطأ بقوله: " ويل للمُصرّين، الذين يُصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون". رواه أحمد. فالواجب قبول الحق ممن أتى به، سواء أكان صديقاً أم عدواً.
قال ابن القيم: "لا تصحّ لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحبّه وممّن تبغضه، فتقبله من عدوّك كما تقبله من وليّك".
وأورد ابن رجب علامات العلم الضار فذكر منها "عدم قبول الحق والانقياد له، والتكبّر على من يقول الحق؛
وختاماً:
فإذا كانت تلك الصفات الجميلة والخصال الحميدة في بلقيس قبل إسلامها، فإنه أحرى أن نـتصف بها ونحن ممّن وُلد على الإسلام، وعاش في كنفه، وتربّى على أخلاقه.
فهل نحن مثلها في فعلها؟
عدل سابقا من قبل المسلمة في الثلاثاء مايو 12, 2009 12:57 am عدل 1 مرات
الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:34 pm من طرف الطيّب
» حَدِيثُ الْيَوْم
الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:30 pm من طرف الطيّب
» الحجاب
الجمعة يوليو 10, 2009 8:44 pm من طرف نور الأسلام
» حديث الشفاعة
الجمعة يوليو 10, 2009 8:32 pm من طرف نور الأسلام
» الامور التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم الاستعاذه منها
الجمعة يوليو 10, 2009 8:05 pm من طرف نور الأسلام
» الإبتسامهٌ
الجمعة يوليو 10, 2009 7:53 pm من طرف نور الأسلام
» فيديو (احذروا السيئات الجارية لفضيلة الشيخ محمد العريفي)
الجمعة يوليو 10, 2009 7:42 pm من طرف نور الأسلام
» هل لكم قلوب
الجمعة يوليو 10, 2009 6:39 pm من طرف نور الأسلام
» اللسان نعمة ونقمة
الإثنين يونيو 29, 2009 5:10 am من طرف نور الأسلام
» مواعظ
الإثنين يونيو 29, 2009 4:33 am من طرف نور الأسلام
» لعبة Jazz Jackrabbit 2
الإثنين يونيو 29, 2009 4:18 am من طرف نور الأسلام
» لعبة الدكتور ، مستشفى خاص فيك وتعالج وتسوي العمليات .. وربي خطيره
الإثنين يونيو 29, 2009 3:54 am من طرف نور الأسلام
» معني بسم الله الرحمان الرحيم
الإثنين يونيو 29, 2009 3:52 am من طرف نور الأسلام
» ما مضى فات
الإثنين يونيو 29, 2009 3:45 am من طرف نور الأسلام
» تذكر قبل أن تعصي الله
الإثنين يونيو 29, 2009 2:31 am من طرف نور الأسلام
» نضرة الإسلام إلى متبرجة
الإثنين يونيو 29, 2009 2:10 am من طرف نور الأسلام
» هل تسرح فى الصلاة؟؟؟العلاج موجود
الإثنين يونيو 29, 2009 1:58 am من طرف نور الأسلام
» الخيانه
الخميس يونيو 25, 2009 3:43 pm من طرف أبو أسامة الدمياطي
» أكره أن أدخل بطني إلا طيبا
الخميس يونيو 25, 2009 3:20 pm من طرف أبو أسامة الدمياطي
» سلسله اصول الفقه للشيخ احمد حطيبه
الخميس يونيو 25, 2009 7:46 am من طرف فارس الاسلام